رواية الحياة.... الحياة الرواية | شهادة في الرواية

مايا أبو الحيّات

طوال العشرين سنة الأولى من حياتي عشت من دون أمّ، عشت أبحث عنها في كلّ شيء أفعله وأقوله وأكتبه. كانت الحدث الأهمّ في أيّ شيء يحدث لي؛ فبسبب غيابها كتبت القصائد باكرًا، وضمّتني أمّهات أخريات شفقة وعطفًا، ووجدت الحبّ خارج حدود البيت دائمًا. تربّيت في بيت عمّتي، وكنت أسمع كلامًا عن أمّي على شكل إشاعات؛ فهي في مدينة أخرى، مدينة بعيدة وممنوعة من السفر. وهي، أيضًا، الأمّ التي لا تسأل عنّي، الأمّ الغائبة، والسرّ الكبير الذي لا نتكلّم عنه أبدًا، لا سيّما أمام أبي. تمحور حولها كلّ شيء تقريبًا؛ تنقّلاتنا من بيت إلى آخر، ومن غربة إلى أخرى. بعد عشرين عامًا استطعت أن أسمع صوتها للمرّة الأولى على الهاتف، ثمّ قابلتها في منطقة محايدة، وأصبحت أمّي التي من أسرار وخراريف، من لحم دم وصوت.

الكتابة كانت وسيلتي للهرب، أعترف أنّني كتبت بعد أن أصبحت أمًّا بواقعيّة مفرطة خالية من التعاطف والرومانسيّات، كنت مصدومة من كلّ هذه الكتابة عن الأمّهات، وهاجس القداسة التي تغلّف هذا النوع من الكتابة

عشت، فترة طويلة، تحت طائل الأمومة المفتقدة لي، طفلةً، ثمّ تحت هاجس تحرّري من هذه الحاجة، وحاولت بكلّ ما أوتيت من قوّة التخفّف من أعباء قداستها وأوهامها التي جعلتني شخصًا محتاجًا وضعيفًا ويشعر بالنقص. حين تزوّجت رغبت بالأولاد ليس من أجلي، كنت لا أزال واقعة تحت فكرة المرأة التي تريد إرضاء كلّ من حولها، وإرضاء الصورة التقليديّة عنها، امرأةً مثاليّة. حملت بتوأم، ومنذ إنجابهما وحتّى فترة قصيرة من عمري، وأنا واقعة تحت صدمة أنّني أمّ. لم يعد الأمر رومانسيًّا، وكنت أبحث دائمًا فيه عن المتعة فلا أجد سوى التعب. كنت أخاف من تركي وحيدة معهما، بل أشعر بالذعر أحيانًا. الكتابة كانت وسيلتي للهرب، أعترف أنّني كتبت بعد أن أصبحت أمًّا بواقعيّة مفرطة خالية من التعاطف والرومانسيّات، كنت مصدومة من كلّ هذه الكتابة عن الأمّهات، وهاجس القداسة التي تغلّف هذا النوع من الكتابة، وكنت متأكّدة أنّها ترزخ تحت طائل القيود الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تجعل من المجتمع ثابتًا. نحن نريد الأمّ التي تستطيع أن تجمع الأسرة، والأسرة التي ستبني مجتمعًا، نريد كلّ هذا من أجل استقرار الاقتصاد وفرض السلطة.

إلى جانب ذلك، كبرت مع همّ آخر، وهو تحديد هويّتي في اليوم الأوّل من كلّ سنة دراسيّة، فكانت المعلّمة في عمّان، حيث نشأت، تسجّل في سجلّ المعلومات الجنسيّة، وعمل الأب، وامتلاكنا لكرت المؤن أم لا، ثمّ أُسأل فيما بعد عن عمل والدي الذي كان سرًّا خطيرًا تؤكّد لي عمّتي أنّ عليّ ألّا أبوح به لأحد، فهو مطلوب من المخابرات الأردنيّة، مخابرات البلد التي أعيش فيها أنا مواطنةً، وألقي الشعر في مناسباتها الرسميّة، للملك وللوطن، وألبس الثوب الأردنيّ في احتفالات عيد الاستقلال.

في فلسطين، الخطابان السياسيّ والأدبيّ يتقاطعان بشدّة، ليس لأنّ ذلك هو الصواب، بل لأنّ قصّة فلسطين اتّكأت لفترة طويلة على الفنّ والأدب، اللذان أبقيا اسم فلسطين حيًّا

في تونس، وفي الوقت الذي كان فيه أبو عمّار يهزّ يد رابين على شاشة التلفاز في البيت الأبيض، كان أبي، الذي كان يسبّ كلّ من كانوا داخل المشهد، يذرف الدموع وهو يخطّط للبيت الذي سيبنيه فوق بيت أهله في مدينة نابلس، حين يعود أخيرًا، وأنا أنظر إليه وأتصوّر فلسطين قرية كبيرة بلا منازل أو عمارات، وأتعجّب ممّا يقوله هذا الرجل الذي يتمنّى لو أنّه يملك شبرًا في مزبلة على أطلال مدينته الأمّ، على امتلاك قصور العالم!

إذًا، البوح بحدّ ذاته كان حتّى تلك اللحظة أداة لجعل الحياة قابلة للاستمرار، والفنّ كما أصبحت أعرفه لاحقًا، هو اللعب على الظروف الآنيّة المستحيلة، من أجل التأسيس للوعي الحرّ الذي يأتي بعد حين. عشت حياة مليئة بالخوف والقلق، وحتّى الآن لا أصدّق أنّني امتلكت الجرأة على كتابة بعض نصوصي، التي جعلتني أشعر، مؤقّتًا، أنّ حياتي ذات قيمة، وأنّ كلّ ما يحدث معي مبرّر.  لكنّ البوح وحده لم يعد الآن كافيًا، فإن كان التحرّر يبدأ بذلك، إلّا أنّ الفنّ بصفته قيمة، يدفع الفنّان إلى التخلّي عن وعيه الذاتيّ من أجل البدء بكتابة أدب جيّد، بعيدًا عمّا يريد قوله وإثباته؛ أدب منعزل عنك شخصًا، على الرغم من انغماسك فيه.

في فلسطين، الخطابان السياسيّ والأدبيّ يتقاطعان بشدّة، ليس لأنّ ذلك هو الصواب، بل لأنّ قصّة فلسطين اتّكأت لفترة طويلة على الفنّ والأدب، اللذان أبقيا اسم فلسطين حيًّا، لهذا شعر الفنّانون والكتّاب أنّ قضيّتهم سياسيّة، وحملوا عبء هذه المسؤوليّة.

لقد شكّل الألم كلّ ما أنا عليه الآن، الألم والجدّيّة التي أحاول تجنّبهما بشدّة، وأعمل بشكل قاس على تهذيب نصوصي منهما، أوجدانني. لكنّني مقتنعة أنّنا بحاجة إلى نوع جديد من الخطاب، يجعل المتلقّي ويجعلنا قادرين على تحمّل كلّ هذا الألم.

 

أعتقد أنّ الكاتبات كنّ أكثر جرأة في ما يخصّ هذا المستوى من الخطاب، فإن كان المثقّفون مفتونين بالبطولة واستعراضها، لا سيّما حين تكون البطولة حلمًا، فإنّ النساء انشغلن بلمّ قمصان الأطفال الملطّخة بالدمّ، والحرمان العاطفيّ، ومحاولة دفع الحياة للاستمرار بتدبير الأموال والفرح والأهازيج، والبحث عن الحبّ في أصغر وأتفه الأمور، والبوح بذلك يحتاج إلى طاقة كبيرة من الحياة والحبّ والرغبة بالاستمرار. وإن كان ثمّة تبجيل لعالم الأفكار الذي يغرق فيه كلام أصدقائنا الرجال، فإنّ حوارًا حسّيًّا واحدًا مع امرأة تبيع البقدونس على الرصيف، سيكفيك لاكتشاف أشياء كثيرة دفعة واحدة.

لقد شكّل الألم كلّ ما أنا عليه الآن، الألم والجدّيّة التي أحاول تجنّبهما بشدّة، وأعمل بشكل قاس على تهذيب نصوصي منهما، أوجدانني. لكنّني مقتنعة أنّنا بحاجة إلى نوع جديد من الخطاب، يجعل المتلقّي ويجعلنا قادرين على تحمّل كلّ هذا الألم.

أعمل حاليًّا مع الأطفال والمراهقين والمراهقات، وأساعد نفسي وأساعدهنّ على تحمّل الحياة من خلال الفنّ، وأحاول إيصال فكرة واحدة بسيطة ومباشرة وسهلة، وهي معضلة في الوقت نفسه، أنّنا لا نقرأ لنتعلّم؛ التعلّم يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالخطأ والتجربة، لا بالتماهي مع أخطاء وتجارب الآخرين. نحن نقرأ لأنّنا بحاجة إلى المتعة وتبديد الوقت وتمرير اللحظة التي يبدو أنّها لا تنتهي، ونستطيع أثناء ذلك أن نسمح لأنفسنا بالمتعة المجّانيّة، ونحن نتلمّس الفرق الشاسع بين تكديس المعلومات وبناء المعرفة.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ بفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، يضمّ شهادات أدبيّة قُدّمت في ملتقى فلسطين الأوّل للرواية العربيّة، الذي عُقِدَ في رام الله بين 7 -11 أيّار 2017، برعاية وزارة الثقافة الفلسطينيّة.

 

** روائيّة وشاعرة فلسطينيّة من مواليد بيروت. صدرت لها ثلاث روايات، آخرها 'لا أحد يعرف زمرة دمه'، وثلاث مجموعات شعريّة، وعدد من قصص الأطفال. تعمل حكواتيّة وممثّلة ومترجمة أدبيّة، وتدير ورشة فلسطين للكتابة، وهي مؤسّسة متخصّصة تهدف إلى تشجيع القراءة.